بقلم: حسن النجار: أحلام السنابسة التي اغتالها طريق الموت: فتيات العنب بين الحلم والدم
الكاتب الصحفي حسن النجار رئيس تحرير جريدة الوطن اليوم والمتخصص في الشؤون السياسية الدولية
بقلم | حسن النجار
في فجر يوم الجمعة، بينما كانت شمس يونيو اللاهبة تتهيأ للبزوغ، كانت 22 زهرة من قرية السنابسة بمحافظة المنوفية يسابقن الضوء، يحملن أحلامهن الصغيرة، ويكدحن في طريق لم يكن مُعبّدًا بالحياة بل بالموت. خرجن بحثًا عن لقمة عيش شريفة في عزبة عنب، ولكن لم يعد منهن إلا جثث هامدة، ممزقة الأحلام والقلوب.
في مصر، حيث تسكن “الوسية” خلف ستائر الزمن، لم تنتهِ بعد الحكايات القديمة عن الإقطاع والذل والعرق المسكوب في الحقول. نعم، لا زال هناك من يحشر النساء والفتيات والرجال في عربات متهالكة، تقذف بهم إلى الغيطان ليعودوا ببضع جنيهات لا تكفي لقوت يوم، لكنهم يرضون بها اتقاءً للعوز وتمسكًا بالحياة.
في تلك القرى المنسية كـ”السنابسة”، البنت بألف رجل، تكد وتجتهد، تعمل وتتعلم، تصارع الفقر وتقاوم الحاجة، وتحلم.. بالزواج، بالجامعة، بالوظيفة، بلحظة كرامة واحدة. لكن الطريق قطع عليهن الحلم.
“حادث طريق”.. أم جريمة اغتيال؟
ما جرى لم يكن مجرد حادث مرورى راح ضحيته 19 فتاة في عمر الزهور، بل هو اغتيال فجّ لأحلام الفقراء والمهمشين، جريمة ارتُكبت بالإهمال والتقصير، بالصمت واللا مبالاة، تحت رعاية طرق تفتقر إلى الصيانة، وسائقين يمرحون بلا رادع ولا قانون.
فتيات السنابسة لم يطلبن المستحيل..
رويدا، كانت تستعد لزفافها بعد أسبوعين، لم يتبقَ من جهازها إلا القليل.
شروق، أرادت شراء “كوتشي” لأخيها الصغير.
جنى، كانت تحتفل بنجاحها في الإعدادية، لكن الموت كان أسرع من فرحتها.
هدير، الممرضة الطيبة، خرجت لتدعم أسرتها بيومية بسيطة.
وشيماء، طالبة الهندسة، أرادت فقط مصروف جامعتها.
كل واحدة منهن كانت تحمل على كتفيها قصة أمل صغيرة في وطن كبير.. وطن لم يحسن حمايتهن.
رسائل هذا الحادث أكبر من دم الفتيات
ما جرى يفتح جراحًا أوسع ويطرح أسئلة موجعة:
أين قانون العمل؟
متى نضع حدًا لاستغلال العاملات الموسميات والعمالة غير المنتظمة؟ هؤلاء لا يحظون بأي ضمان اجتماعي أو تأمين صحي، يعيشون يومهم بيومهم، ويخسرون أرواحهم في لحظة.
أين صيانة الطرق؟
متى نتوقف عن تمجيد شبكة الطرق الجديدة، بينما طرق أخرى تُزهق فيها الأرواح كل يوم؟ أين الرقابة؟ وأين الضمير؟ وأين التكنولوجيا الحديثة لضبط حركة النقل الثقيل؟
أين تفعيل قانون المرور؟
القيادة عكس الاتجاه، والسرعة الجنونية، والتجاوزات القاتلة.. جرائم يومية بلا رادع. لا بد من تطبيق رادع حقيقي على المخالفين، وإلا فنحن شركاء في الجريمة.
استجابة رئاسية سريعة… لكنها لا تكفي وحدها
الرئيس عبد الفتاح السيسي، تفاعل سريعًا مع الفاجعة، ووجه بزيادة التعويضات لأهالي الضحايا والمصابين، وأمر الحكومة بمراجعة شبكة الطرق، وتكثيف الرقابة على المحاور الخطرة، وهو موقف إنساني مسؤول يستحق التقدير.
لكننا اليوم لا نحتاج فقط إلى تعويضات مادية، بل إلى إنقاذ ما تبقى من أحلام الفقراء قبل أن تذوب على طرق الموت، وإعادة الاعتبار للمواطن البسيط الذي لا يريد سوى الأمان على نفسه وذويه.
الخاتمة: الحزن لا يكفي.. والمحاسبة حق
ما جرى للسنابسة ليس استثناء، بل جرس إنذار مرعب لما قد يحدث غدًا في قرى أخرى، وعلى طرق أخرى، ولأبرياء آخرين. إن كانت الفتيات قد رحلن، فليكن رحيلهن بدايةً لثورة في الضمير، وثورة على الإهمال، وثورة من أجل أن يبقى الحلم حيًا في قلوب البسطاء.
هؤلاء الفتيات لم يطلبن أكثر من فرصة للحياة، فأعطوها للباقين.