بقلم | حسن النجار
استمعت أمس إلى زغاريدٍ دافئة تصدح من نوافذ الأحياء الشعبية، فغمرتني مشاعر الفرح والتفاؤل. كان البيت المصري يحتفل بإعلان نتيجة الدبلومات الفنية، في مشهد لا يقل بهجة عن فرحة الثانوية العامة،
بل ربما يفوقها في بعض البيوت. فالنجاح في الدبلومات الفنية يمثل نهاية مرحلة وبداية جديدة لشبابٍ يستعدون لاقتحام سوق العمل ومشوار الحياة.
بعض المواقع الإخبارية بادرت بتسليط الضوء على أوائل الدبلومات الفنية، وقرأنا أسماءهم بكل فخر. الأجمل من ذلك أن طموحاتهم كانت واقعية وعملية؛ فمنهم من يرغب في دراسة الهندسة،
أو التجارة، أو السياحة والفنادق، أو الالتحاق بكليات التمريض. شبابنا لم يعد يبحث عن “المنظرة” بل عن مستقبل يضمن له لقمة العيش بكرامة.
بالفعل، أصبح بعض الطلاب يعتبر الدبلومات الفنية طريقًا مختصرًا نحو الجامعة، يتفوق على الثانوية العامة في بعض الأحيان. ولذلك، من الواجب على الدولة أن تزيل الوصمة الاجتماعية التي التصقت بهذا النوع من التعليم،
وتعيد له اعتباره. لا ننسى أن المهندس إبراهيم محلب، حين كان رئيسًا للوزراء، كان من أوائل من بادروا بتخصيص وزارة مستقلة للتعليم الفني، قبل أن تُلغى بعد ثلاثة أشهر فقط، نتيجة غياب الرؤية.
الزغاريد التي انطلقت بالأمس كانت إشارة على ارتفاع الوعي الشعبي بقيمة التعليم الفني. إننا بحاجة إلى هذا النوع من التعليم، لأنه ببساطة يمكن أن يكون قاطرة الصناعة في مصر. نحن نحتاج إلى عمالة مدربة ومؤهلة تقنيًا،
تسهم في النهوض بالاقتصاد وتوفر خدمات فنية يحتاجها كل بيت مصري، من صيانة الغسالات والثلاجات إلى أعمال السباكة والكهرباء والتكييف.
طالبتُ مرارًا بإنشاء مراكز خدمة فنية تستوعب خريجي التعليم الفني، وتقوم بتدريبهم بالتعاون مع المصانع. وكان من المفترض أن تتولى وزارة الصناعة هذه المهمة، لكنها للأسف انشغلت في ملفات أخرى، لا تمت لها بصلة مباشرة مثل حوادث الطرق! كان الأجدر أن يكون لكل من وزارة الصناعة ووزارة النقل وزير مستقل، يتفرغ كلٌ منهما لمسؤولياته دون تشتت.
أسعدتني تصريحات الطالبة الأولى على مستوى الجمهورية، التي أكدت أنها حصلت على مجموع مرتفع في الشهادة الإعدادية، وكانت مؤهلة للثانوية العامة،
لكنها اختارت التعليم الفني بإرادتها، متحدية رغبة الأسرة، في سبيل تحقيق حلمها. هذا النموذج يعكس وعيًا جديدًا لدى الطالبات، بأن طريق الجامعة لم يعد حكرًا على الثانوية العامة.
إن التعليم الفني يمكن أن يكون حقًا قاطرة الصناعة، إذا أحسنا التخطيط والتأهيل، وأدركنا أننا نستطيع أن نصنع كل شيء في مصر، من الغسالات والثلاجات إلى السيارات والبوتاجازات، بل وأدوات السباكة نفسها
وأخيرًا، ما أحوجنا اليوم إلى رئيس وزراء يحلم ببناء قلعة صناعية حقيقية، كما كان يحلم إبراهيم محلب، في منطقة خليج السويس وميناء شرق التفريعة.. ذلك الحلم الذي بدأ منذ أيام حكومة نظيف والدكتور عصام شرف، ولا نزال ننتظر أن نراه واقعًا على الأرض.
فهل سنظل نحلم فقط؟ أم أن الحلم هذه المرة سيكون له موعد مع الحقيقة؟