دعوة الرئيس السيسي للتحقيق في شكاوى المرحلة الأولى من الانتخابات… خطوة تُعيد السياسة إلى الشعب
بقلم | حسن النجار
تمثل توجيهات السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بالتحقيق في الشكاوى المتعلقة بالمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب سابقة مهمة في الحياة السياسية المصرية، باعتبارها تعكس اهتمامًا بالغًا بترسيخ الدور الحقيقي للسلطة التشريعية بوصفها ممثلًا مباشرًا لإرادة الشعب.
فهذه الخطوة تعيد تذكير الجميع بأن العملية الانتخابية لم تُخلق بوصفها إجراءً شكليًا، بل بوصفها أداة أصيلة في ممارسة الديمقراطية، وتجسيدًا لفكرة “حكم الشعب”، التي لا تتحقق إلا عندما تكون النتائج معبرة عن نبض الشارع وتطلعات المجتمع.
إذ إن غياب مراجعة نتائج الانتخابات أو عدم التعامل مع الشكاوى بجدية قد يدفع الأمور نحو اتجاه واحد عند سنّ القوانين، بما يخالف المزاج العام رغم ما تتمتع به السلطة التشريعية من استقلالية لا تخضع لرقابة مؤسسات أخرى، وهو ما يجعل دعوة الرئيس تمثل ضمانة لعودة الانضباط السياسي وتحقيق التوازن بين السلطات.
حياد مؤسسة الرئاسة… مسار غير مسبوق
إن دعوة الرئيس السيسي التي جاءت بمزيج من الصرامة واحترام الاختصاصات، خاصة عند حديثه عن استقلال الهيئة الوطنية للانتخابات، لا يمكن فصلها عن مسار مهم يتجلى في حياد مؤسسة الرئاسة. فهذا الحياد يمثل تحولًا جوهريًا لم تشهده مصر منذ قرار الرئيس الراحل أنور السادات بإعادة الأحزاب السياسية في السبعينيات.
فمنذ ذلك الوقت –باستثناء فترة الرئيس عدلي منصور– كان رئيس الجمهورية جزءًا من حزب سياسي، أو ممثلًا لاتجاه حزبي بعينه، وهو ما نزع عمليًا صفة الحياد عن منصب الرئيس، وأدى تاريخيًا إلى فوز كاسح للحزب الحاكم، تحت دعاوى “تحقيق الانسجام بين السلطات” أو “ضمان الاستقرار السياسي”.
لكن الواقع كان يشير إلى أن هذا الانسجام لم يكن يعكس دائمًا تطلعات المجتمع أو المزاج العام، بقدر ما كان يعبر عن شبكات نفوذ وحشد انتخابي، أدت في النهاية إلى نتائج “صحيحة بالأرقام” لكنها غير معبرة سياسيًا.
الحوار الوطني… من المنافسة إلى الشراكة
المسار الثاني الذي تعكسه توجيهات الرئيس هو أنها امتداد صريح لمسار الحوار الوطني. فاليوم، يقف الفائزون والخاسرون على أرضية مشتركة عنوانها “المصلحة الوطنية”، لا الصراع الحزبي التقليدي. لقد تحوّل السباق الانتخابي من معركة صفرية إلى منافسة نزيهة، تبقى فيها الهزيمة مجرد محطة لا تعطل الدور الوطني لأي حزب يرغب في خدمة الدولة.
هذا التحول يشجع الأحزاب، على اختلاف توجهاتها، على العمل الجاد داخل بوتقة الوطن، ويعزز بناء توافق مؤسسي يحتاجه المجتمع والدولة معًا، خصوصًا في ظل التحديات الإقليمية والدولية.
الرئيس كـ«حَكَم» بين السلطات
المسار الثالث يتعلق باستخدام الرئيس — كحاكم وفق الدستور — لصلاحياته في ضبط الإيقاع بين السلطات، دون التدخل في اختصاصات الهيئة الوطنية للانتخابات. فدعوة التحقيق لا تنتقص من استقلال الهيئة بل تؤكد عليها، وفي الوقت نفسه تبعث برسالة للمواطن مفادها أن صوته محمي، وأن الدولة حريصة على إعادة الثقة بين المواطن وصندوق الانتخاب.
هذا الدور “التحكيمي” يجعل الرئيس فوق الأطراف، لا طرفًا بينها، وهو أمر لا يتوفر غالبًا للرؤساء المنتمين لأحزاب سياسية، لأنهم يكونون — نظريًا وعمليًا — أصحاب مصلحة مباشرة في نتائج أي انتخابات.
مرحلة جديدة… المواطن شريك لا متفرّج
إن المسارات الثلاثة مجتمعة تمثل رسالة تتجاوز الهيئة الوطنية للانتخابات إلى المواطن نفسه:
مصر تدخل مرحلة سياسية جديدة، عنوانها الشراكة بين الدولة والمجتمع.
فالجمهورية الجديدة التي شُيِّدت على مشروعات تنموية عملاقة، وعلى إعادة توزيع الخريطة الجغرافية للتنمية، وعلى تمكين الشباب والمرأة وذوي الهمم، وعلى إحياء الهوية والثقافة المصرية، وصلت الآن إلى محطة مهمة:
الارتقاء بالحياة السياسية عبر مشاركة المواطن وليس الاكتفاء بتلبية احتياجاته المعيشية فقط.
لقد خاضت الدولة خلال السنوات الماضية معركة وعي عميقة، واليوم تنتقل من مرحلة “بناء الدولة” إلى مرحلة “بناء المشاركة”. وهنا تصبح الكرة فعلًا في ملعب المواطن، الذي لم يعد بإمكانه الوقوف على الهامش.
بناء الثقة… وتعزيز شرعية البرلمان والأحزاب
عبقرية دعوة الرئيس السيسي تتجلى في أنها تمثل خطوة لبناء الثقة مجددًا بين المواطن وصندوق الانتخاب، بما يعزز شرعية القوى الحزبية ويكشف وزنها الشعبي الحقيقي، ويعيد للبرلمان مكانته كسلطة شريكة وليست تابعة.
وهكذا تنتقل الدولة من مرحلة تعتمد فيها على قدرتها على البناء والتنفيذ وحدها، إلى مرحلة الدمج بين التنمية والمشاركة السياسية. فيتحول المواطن من متلقٍ للقرارات، إلى فاعل وشريك في صياغة القوانين والسياسات العامة.
وهذا التحول هو ما تحتاجه أي دولة حديثة تسعى لترسيخ الاستقرار السياسي القائم على المشاركة لا على التفويض المطلق
الخلاصة
دعوة الرئيس السيسي للتحقيق في شكاوى الانتخابات ليست مجرد إجراء إداري، بل لحظة سياسية فاصلة تعيد الاعتبار للسياسة، وترسخ حياد الدولة، وتبني الثقة بين المواطن وصندوق الانتخاب، وتمنح الأحزاب فرصة لمعرفة حجمها الحقيقي، وتعيد للبرلمان وزنه ودوره في منظومة الحكم.
إنها خطوة تعيد السياسة إلى الشعب… وتعيد الشعب إلى قلب السياسة.



